Saturday, April 07, 2007

السبورة





لم تتوقف همهمات الطلبة عندما دخل القاعة واتجه مباشرة الى السبورة الخضراء العريضة .. حتى عندما نظر بإتجاهم مباشرة لم يتوقف الطلبة عن احاديثهم الجانبية وكأنه غير موجود بالمرة .. تنهد ثم استدار ليمسح السبورة ويزيل بقايا كتابات المحاضرة السابقة .. ذرات صغيرة من الجير "ملطوعة" بنسق معين على هذا الحائط الاخضر لتشكل كلمات كانت تعنى شيئا لدكتور المحاضرة السابقة والذى قضى في كتابتها ساعات آملا ان يستوعب هؤلاء البؤساء نصفها ..
اطنان من غبار الجير ملئت صدره جراء مسح تلك السبورة لسنين وسنين .. ضريبة المهنة وليس له ان يعترض الآن .. كان يتمتم بكلمات غير مسموعة وهو مستغرق بكليته فى مسح السبورة بإخلاص وبطء شديد وعلى وجهه نظرة شجن وكأنه يرثى كل هذا اللى يمسحه بلا رجعة كان يبدو وكأنه يتلمس حائط المبكى الخاص به ..
لم يعرف لما تؤثر تلك اللحظات بالذات به بهذه الكيفية الغريبة او لما يشعر بالرثاء لنفسه حينما يقوم بهذا الفعل والغريب انه كان يستلذ هذا الشعور ويدمنه
دائما ما كانت تصطدم بأذنه عبارات وكلمات لاحاديث جانبية يتناولها طلبة الصف الامامى والاقرب للمنصة والسبورة .. وربما لان تصميم قاعة المحاضرات الصغيرة كان معد بحيث لا يغادرها الصوت لخارج القاعة .. كانت الكلمات والهمسات تظل تدوى لفترة اطول متخذة مسارات غريبة قبل ان تفنى .. وخاصة الكلمات الصادرة من الصف الامامى وبالذات من طرفه الايمن .. يهمس الجالسون بينما هو موليهم ظهره مستغرقا فى مسح السبورة غير حاسبين انه قادر على سماع كلماتهم بوضوح .. وكان الطالب يقول لزميله
- انا مش فاهم ايه لازمة مادة الاوبريتنج سيستم دى اصلا !! يكونوش فاكرين اننا هنعمل ويندوز ولا لينوكس جديد !!
يرد طالب آخر قائلا
- ياعبيط .. انت علشان تكتب كود ميخرش الميه لازم تبقى فاهم الاو - اس بيشتغل ازاى اصلا
- ميه ايه اللى هتخر يا عم لينيوس انت كمان .. انت فاكر نفسك فى هندسة صحية هنا ولا ايه
ويقطع الحديث ضحكة مائعة من طالبة تجلس بجانبهم لتذكره بتلك الطالبة الاخرى التى اعتادت ان تجرى مكالمتها شديدة الخصوصية بصوت هامس قبيل المحاضرة تماما .. لكم سمع من احاديث قصيرة وعبارات لم يتخيل ان يسمعها من فتاة بهذا السن ابدا .. او ربما ان سنه المتقدمة هى التى اوحت اليه بأن تلك المحادثات شائنة الاسلوب والتعبيرات ... لقد تغير الشباب فعلا ..وبحكم سنين الخبرة يستطيع ان يقرأ الطلبة من عيونهم وطريقة كلامهم .. هذا طالب متملق نجده فى غرف الاساتذة اكثر من الفصول وقاعات المحاضرات .. وهذه تروم لنفسها زوجا من طاقم المعيدين .. اما هذا فلابد وانه "فاسوخة " الدفعة .. وهذا حمار يتظاهر بالحكمة وسيقضى سنوات كثيرة قبل ان يستطيع ان يفوز بشهادة ولقب يضمن له دخول نادى المهندسين . وتلك الطالبة يكاد يجزم بأنها لن تتعدى الماجستير ولن تستطيع الحصول على الدكتوراه ابدا ..اما هذا الطالب البائس فلابد وانه سيقف هنا مكانى امام تلك السبورة بعد عدة سنوات ...
احس بالملل من مشاهدة التاريخ وهو يعيد نفسه مرارا وتكرارا بالرغم من تغير المفاهيم والمعاملات والعلاقات بل ونوعية البشر فأن نفس الادوار والاماكن محفوظة .. يشغلها طلبة معينون كل فترة وان تغيرت وجوههم واجسامهم .. ولكن هذه الدفعة بالذات لا يطيقها ، تمتم لنفسه بأن هؤلاء الطلبة لا يستحقون اماكنهم بأى حال .. .. ثم خطر له فجأه أنه هو الذى لايستحق هذا المكان ابدا !!! سنين وسنين بينما هو بنفس المكان يقوم بنفس الدور الموكل اليه كثور مقيد الى ساقية .. وجوه تجىء وتذهب .. طلبة يجئيون ويذهبون اجيال واعوام تمر بينما هو فى مكانه ولا مجال لفئة اعلى يرتقى اليها لقد وصل للذروة .. ولكن هل يستطيع ان يغير من عمله فى هذا السن ؟ خاصة بعد ان احس ان هذا هو دوره الوحيد والمحدد فى الحياه؟ ولن يستطيع ان يقوم بغيره بعد الآن..
انتزعته من تساؤلاته كلمات الدكتور صالح من خلفه..
شكرا يا عم احمد كفاية كده .. هاتلى القهوة السادة بسرعة واقفل الباب ومتدخلش طلبة تانى