اعتاد عبدلله الكسار ان يقضى معى حوالى الساعة يوميا نتبادل فيها الحديث والحوار فى كافة الامور الحياتية .. وكانت هذه الجلسة تتم غالبا قبل صلاة العصر بغرفة مكتبى فى مقر عملى السابق ..كنت اعمل لفترتين من الساعة العاشرة صباحا وحتى الثانية عشر مساء وكنت احصل على فترة راحة لمدة ساعتين تقريبا تبدأ قبيل صلاة العصر ... وكان عبدلله يعمل معى بنفس مقر الشركة التى اعمل بها ولكن فى وظيفة مختلفة تماما .. كانت وظيفته مستشار لرئيس مجموعة الشركات والتى تٌعتبر شركة الاستثمارات العقارية التى اعمل بها احدى شركات هذه المجموعة .
كان عبدالله يعمل لفترة واحدة بالطبع تنتهى عصر اليوم .. فكان يفضل ان يقضى معى بعض الوقت حتى يحين موعد الصلاة فيصليها بالجامع اسفل الشركة ثم ينصرف عائدا لمنزله.
كان الحديث بيننا يتم بطريقة عجيبة بعض الشىء . فقد كنت اتكلم العربية مخلوطة ببعض التعبيرات الانجليزية .. بينما هو يحاورنى بالانجليزية المخلوطة ببعض العربية المضحكة ..
نسيت ان اذكر اسم عبدلله الحقيقى ..فهو يدعى ريتشارد كولمان .. امريكى مسلم يجيد العربية وان كان يجهده نطقها لفترات طويلة .. بينما انا اجيد الانجليزية ويجهدنى التحدث بها لفترات طويلة .. لذلك كنا نتبادل الحوار بهذه الطريقة العجيبة حتى يحرص كل منا على ان الآخر قد فهم تماما المقصد من كلامه.
كان عبدلله واسع الاطلاع خصوصا مع رحلاته العديدة لكثير من دول العالم .. كما انه متعدد الهوايات ويعشق القراءة وودود للغاية .. بخلاف ان المعلومات التى احصل عليها منه ممتعة وانا الذى لم اسافر لابعد من القاهرة الكبرى الا اننى استمتع اكثر بمحاولاته لنطق كلمات عربية تمتلىء بحروف العين والقاف والهمزات .. حاول عبدلله منذ سنوات عديدة عندما كان يعيش بالولايات المتحدة ان يحصل على شهادة الدكتوراه فى علم الاديان المقارن وكان احد الاساتذة المشرفين على رسالته يهوديا اسرائيليا ولسبب ما اجهله كان هذا البروفيسير السبب فى عدم حصوله على الدكتوراه وكان ايضا السبب فى وضعه على قائمة الممنوعين من دخول اسرائيل حيث كان عليه ان يناقش رسالته هناك ..ولما استيقن عبدلله من استحاله حصوله على الدكتوراه استجاب لنداء الترحال الذى يدعوه باستمرار .. او الـ Travel bug كما يحلو له ان يسميه فسافر الى الهند وباكستان وتركيا والسعودية والسودان والمغرب بخلاف بعض الدول الاوروبية وقضى بكل دولة من تلك الدول سنتان او اكثر الى ان استقر به الحال فى مصر فعاش بها وتزوج من مصرية .. نسيت ان اذكر انه قد تحول للاسلام قبل بداية رحلاته تلك وظل محتفظا بديانته الجديدة حتى استقر بمصر ... وقد تعودت ان اراه فى الشارع الذى اقطن به – قبل حتى ان اصادقه او ان يجمعنا مقر عمل واحد- فقد كان يسكن بشقة مفروشة بنفس الشارع الذى اعيش به وذلك قبل ان يتزوج او يعمل بوظيفته الحالية .. كنت اراه يجرى مهرولا فى محاولة للحاق بالصلاة فى الجامع الصغير فى آخر الشارع الذى نسكنه .. وكان منظره ملفت جدا للنظر حينما يجرى مرتديا جلبابه الابيض الطويل خاصة انه طويل القامة ويقترب طوله من المتران تقريبا مع ملامحه الشقراء ووجهه الاجنبى الواضح .. وكنت اتعجب دائما لما يذهب للصلاة مهرولا ؟ اليس بامكانه النزول قبل موعد الصلاة بوقت كافى ام انه يعتبر الجرى للحاق بالصلاة نوعا من الرياضة اليومية او ربما سنّة واجبة تعلمها عن طريق شيخه الامريكى " نورالدين ديركى" .. فى تلك الفترة كان عبدلله يعمل بالمركز الثقافى الامريكى حتى عرفت منه فيما بعد انه ترك تلك الوظيفة لان رئيسه فى العمل هناك "هوموسيكشوال" وكان يسبب له بعض المضايقات احيانا ولا يستريح فى العمل معه ..
وعندما تعرفت بعبدلله بشكل لائق بعد ذلك بعدة سنوات والتقيت به فى عملى واصبحنا نقضى وقتا يوميا دائما فى التحدث تيقنت خلالها من انه شخص بسيط وودود وان كان هناك دائما حاجز يمنعه من التفاعل مع من حوله بشكل اكثر سلاسة .. وكان هو يعتقد ان هذا الحاجز هو كونه مجرد "خواجة" آخر ... يهزىء به البعض حاسبين انه لا يفهمهم او يتفهمهم بشكل كافى .. بينما البعض الآخرين يتعاملون معه على سبيل التسلية او استعراض بعض الكلمات الانجليزية الرديئة بلكنتهم المضحكة .. والقليلون مما يتعاملون معه بدون تكلف او ادعاء او استهزاء .. وكنت انا من هذه القلة – بكسر القاف طبعا - وكان اكثر ما يعجبنى فى شخصية عبدلله هو عدم تكلفه ابدا وبعده عن التظاهر بأى شكل .. كان تلقائى جدا وعفوى وبسيط ويفعل ما يسعده ولا يهمه رأى الآخرين فيه كعادة معظم الاجانب ، كما انه هناك جانب آخر لمداومته على زياراته اليومية لى فى مكتبى .. وهى انه معجب جدا وعاشق لكل المشروبات التى يقوم بصنعها عامل البوفيه فى الدور الذى يقع فيه مكتبى بالشركة .. على حين ان البوفيه الموجود بالطابق الآخر الذى يعمل به متواضع الامكانيات كما انه يجد صعوبة فى الحصول على مشروب السحلب الذى يعشقه الى حد الجنون ولا يتمكن من تناوله الا عندما اطلبه له خصيصا من عامل البوفيه الذى يتجاهل طلباته فى غير وجودى.
كما انه كان يستعين بى احيانا لمساعدته فى الاتصال بأقاربه واصدقائه فى الولايات المتحدة عن طريق الانترنيت .. كان يعتقد ان قدرتى على جعله قادرا على الاتصال تليفونيا بأقاربه واصدقائه هناك عن طريق بعض برامج النت – مثل برنامج net2phone الذى كان مجانيا حينها - كان يعتبر هذا عبقرية كمبيوترية فذة وقدرات خارقة لا يملكها الا الـ computer geeks ولم احاول ان اعارضه فى رأيه هذا بالطبع !
وحتى بعد ان تزوج من مصرية واصبح ابا لم تتغير شخصيته كثيرا .. فلا يزال يحب ان يتصعلك بين الحين والآخر ويدعو نفسه على الغداء عندى او عند ايا من اصدقائه المقربين او ان يذهب للسباحة فى البحر فى منتصف موسم الشتاء او حتى ان يسافر الى سيوة فجأة مع صاحب الشركة الذى يذهب فى العادة لمعاينة بعض الاراضى للشراء هناك بينما يقحم عبدلله نفسه ليزور بعض آثار سيوة بدون اى ترتيب مسبق ...
حتى عندما يزور ايا من اصدقائه المصريين فى منازلهم لا يجد غضاضة فى اقتحام المطبخ ليفتح الثلاجة ليبحث عن شيئا يشربه او حتى ان يطلب من صاحبة الدار ان تصنع له طبقا من الكسكسى المعد على الطريقة المغربية يليه كوبا كبيرا من مشروب السحلب الذى يعشقه !!!
تلقائية شديدة وعفوية بدون اى تكلف قد تصل لحد الوقاحة فى عرفنا المصرى التقليدى !! هذا هو عبدلله الامريكى الذى اتكلم عنه
كانت احاديثنا اليومية متنوعة ..فقد تكون مناقشة لوقائع تاريخية او استكمال احداث فيلم سهرة لم يتسنى لاحدنا اكماله او حتى النقاش حول الطريقة المثلى لحساب قيمة زكاة المال لو كانت مدخراتك نصفها باليورو فى بنوك مصرية والنصف الآخر بالدولار الكندى فى بنوك اجنبية ... اما احاديثنا السياسية فقد كانت تدور فى العادة حول حقبة زمنية منصرمة فقد نتناول فى حديثنا بعض من مساوىء فترة حكم السادات او حتى عبدالناصر او حتى بدايات المكارثية فى امريكا او لماذا كان كيندى محبوبا ووجه الشبه بينه وبين كلينتون.
حتى كان ذلك اليوم الذى امتد فيه الحديث ليتناول فترة سياسية حديثة نوعا ما وضمت تلك الجلسة احد اصدقائى المقربين والذى كانت معلوماته وقراءاته السياسية سواء المصرية او غير المصرية تفوقنى كثيرا .. كان عقله شبه موسوعى ولذلك وجده عبدلله مادة خصبة و "قماشة جديدة" تصلح للاستهلاك المحلى وتصنع افقا جديدة لمداخلات اكثر عمقا. حتى انه فى هذا اليوم امتد النقاش لما بعد صلاة العصر الى ان استطاع صديقى الانفراد بى لثوان خارج المكتب اثناء الوضوء استعدادا للصلاة الفائتة .. وعندها لفت نظرى لشىء غاب عن بالى - وهنا يجدر بى الاشارة الى ان صديقى هذا من مؤيدى نظرية المؤامرة وان كان هذا التأييد لايخرج عن اطار المعقولية فى اغلب الاحيان – لفت صديقى نظرى الى ان حديث اليوم مع عبدلله كان دسما للغاية واحتوى اسئلة كثيرة وعلامات استفهام اكثر من الاجابات او تحليلات المواقف المعاصرة والتى كان اغلبها اجتماعى/سياسى الصبغة .. ثم سألنى صديقى فجأة الم تثر ايا من البلاد التى زارها عبدلله قبل استقراره بمصر شكوكى او فضولى .. فأجبت بغباء وثقة بأنه "لا .. ولما تثير فضولى؟؟"
فرد صديقى سألا اياى مرة اخرى
الم يخطر ببالك ابدا انه من الممكن ان يكون جاسوسا ؟ انه انسب شخص للقيام بتلك الوظيفة حسبما ارى.
جاسوسا !!! عبدلله جاسوس ؟؟؟ هكذا اجبت صديقى فى ذهول واستنكار ... فلم يخطر ببالى ابدا ان يكون عبدلله بشخصيته الغريبة العجيبة جاسوس !! وجاسوس لمن ؟ وعلى من ؟ وهل يوجد فى بلادنا ما يستحق التجسس عليه ؟؟
وتذكرت دعوى صديقى اياه السابقة بأن شهادات التأهيل للحصول على الايزو التى تسعى اليها كل الشركات والمصانع الكبيرة ماهى الا محاولة للتجسس ورسم خريطة للاقتصاد المصرى وطريقة عمل واداء مجموعة الشركات المؤثرة فى الاقتصاد .. تذكرت هذا لاعود واتهمه بالمبالغة الشديدة وان نظرية المؤامرة عادت لتستحوذ على تفكيره وتفقده عقلانيته.
فرد على صديقى بأنه من الطبيعى ان استنكر انا ذلك نظرا لاننى انظر من داخل الصندوق لا من خارجه واستتبع ذلك بعدة نقاط ذكرها عبدلله فى حديثه مبكرا ولم يتبعها بإجابات او تحليلات كعادته بل انتظر منا ان نضع نحن النقاط فوق الحروف او ان نبين له وجهة نظرنا كمحليين من ابناء البلد !!
استطاعت كلمات صديقى الاخيرة ان تزعزع من ثقتى قليلا وبدا ذلك واضحا فى ردودى ودفاعى الضعيف على افحامات صديقى، فقطعت المحادثة واتجهت لغرفة مكتبى وفتحت بابها فى عنف مبالغ فيه لاجد عبدلله يمسك بكوب السحلب الفارغ تقريبا ويرفعه مقلوبا لاعلى باتجاه فمه بينما رأسه الى الوراء ويده تضرب قاع الكوب فى محاولة يائسة لدفع قطع الزبيب الملتصقة بقاع الكوب الى جوفه بينما هو يتكلم من داخل الكوب بصوت كارتونى ويقول
I Like "Zabeeb" very much
ابتسمت ونظرت لصديقى من خلفى ولم اعلق